تاريخ الجاسوسية
تعد الجاسوسية مهنة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان داخل مجتمعات البشرية المنظمة منذ فجر الخليقة .. وقد مثلت ممارستها بالنسبة له ضرورة ملحة تدفعه إليها غريزته الفطرية للحصول على المعرفة ومحاولة استقراء المجهول وكشف اسراره التي قد تشكل خطراً يترصد به في المستقبل .. ولذلك تنوعت طرق التجسس ووسائله بدءاً من الاعتماد على الحواس المجردة , والحيل البدائية , والتقديرات التخمينية , والانتهاء بالثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات والمعلومات .. وعلى مر العصور ظهر ملايين من الجواسيس , لكن قلة منهم هم الذين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ , بما تمتعوا من سمات شخصية فريدة أهلتهم لأن يلعبوا أدواراً بالغة التأثير في حياة العديد من الأمم والشعوب .. وهنا في هذا القسم سنستعرض لكم أحداث لم يعرفها أكثركم من قبل .. والتي ستمضون في مغامراتها المثيرة والممتعة عبر دهاليزها الغامضة , لتتعرفوا على أدق التفاصيل والاسرار في حياة أشهر الجواسيس والخونة من خلال العمليات التي قاموا بها ..
أول عملية تجسس في التاريخ - مخابرات الفراعنة
مارس الإنسان التجسس منذ فجر الخليقة .. استخدمه في الاستدلال على أماكن الصيد الوفير , والثمر الكثير , والماء الغزير , والمأوى الأمين , الذي يحميه من عوادي الطبيعة والوحوش والبشر , وتختلف شدة ممارسة التجسس بين مجتمع وآخر حسب نوع الأعراف والتقاليد , والعادات السائدة , فنراه على سبيل المثال سمة ثابتة عند اليابانيين , حتى ان الجار يتجسس على جاره بلا حرج , فالتجسس جزء من حياتهم العادية داخل وخارج بلادهم , كما ان الشعب الياباني يؤمن بأن العمل في مجال المخابرات خدمة نبيلة , في حين أن معظم شعوب العالم تعاف هذه المهنة , التي لا غنى عنها في الدولة المعاصرة , حتى تقوم
بمسئولياتها . فلا يكفي أن تكون الدولة كاملة الاستعداد للحرب في وقت
السلم , بل لابد لها من معلومات سريعة كافية لتحمي نفسها , وتحقق
أهدافها في المعترك الدولي .
لقد أصبح جهاز المخابرات هو الضمان الاساسي للاستقلال الوطني , كما أن
غياب جهاز مخابرات قوي يمنى القوات العسكرية بالفشل في الحصول على
إنذار سريع , كما أن اختراق الجواسيس لصفوف العدو يسهل هزيمته .
ولعل هذه الغاية هي التي أوعزت إلى الملك ( تحتمس الثالث ) فرعون مصر
بتنظيم أول جهاز منظم للمخابرات عرفه العالم .
طال حصار جيش ( تحتمس الثالث ) لمدينة ( يافا ) ولم تستسلم !
عبثا حاول فتح ثغرة في الأسوار .. وخطرت له فكرة إدخال فرقة من جنده
إلى المدينة المحاصرة , يشيعون فيها الفوضى والارتباك , ويفتحون
مايمكنهم من أبواب .. لكن كيف يدخل جنده ؟؟
اهتدى إلى فكرة عجيبة , شرحها لأحد ضباطه واسمه ( توت ) , فأعد 200
جندي داخل أكياس الدقيق , وشحنها على ظهر سفينة اتجهت بالجند وقائدهم
إلى ميناء ( يافا ) التي حاصرتها الجيوش المصرية , وهناك تمكنوا من
دخول المدينة وتسليمها إلى المحاصرين .. وبدأ منذ ذلك الوقت تنظيم
إدارات المخابرات في مصر والعالم كله .
ويذكر المؤرخون أن سجلات قدماء المصريين تشير إلى قيامهم بأعمال عظيمة
في مجال المخابرات , لكنها تعرضت للضعف في بعض العهود , كما حدث في عهد
( منفتاح ) وإلا لما حدث رحيل اليهود من مصر في غفلة من فرعون .
وتجدر الإشارة إلى أن ( تحتمس الثالث ) غير فخور بأنه رائد الجاسوسية ,
فكان يشعر دائماً بقدر من الضعة في التجسس والتلصص ولو على الأعداء ,
وكأنه كان يعتبره ترصداً في الظلام أو طعناً في الظهر , ولو كان ضد
الأعداء , مما جعله يسجل بخط هيروغليفي واضح على جدران المعابد والآثار
التي تركها – كل أعماله , من بناء المدن , ومخازن الغلال للشعب ,
وحروبه , أما إنشاء المخابرات فقد أمر بكتابته بخط ثانوي , وأخفاه تحت
اسم ( العلم السري ) مفضلاً أن يذكره التاريخ بمنجزاته العمرانية
والحربية والإدارية , وما أداه من أجل رفاهية شعبه , دون الإشارة إلى
براعته في وضع أسس الجاسوسية
ثاني عملية تجسس في التاريخ
إن اغلب الناس يظنون ان ظهور الجاسوسية بدأت في التسعينات أو على الاقل في الثمانينات ..لكن الذي لا يعرفونه هو ان الجواسيس معروفون منذ اقدم عصور التاريخ ..وعلى وجه التحديد منذ عرفت الحروب .. فقد اصبح التجسس عملية معترفاً بها ..وقد ورد أول قصه للجواسيس , رواها التاريخ المكتوب في التوراه : كان موسى قد قاد الاسرائيليين حتى خرجوا من مصر , ثم توقف بهم في منطقة مجدبة وكان " يهوا – أي الله – " هو الذي نصح موسى بأن يبعث بجواسيس إلى ارض كنعان ( فلسطين ) , فإختار موسى بنفسه جواسيسه وكانوا يتكونوا من رجلاً واحداً من كل قبيله , وأظهر موسى تقديره لأهمية البعثه حين اختار الرجال البارزين من قادة القبائل , وحين زودهم بتعليمات كثيره دقيقه ..
يقول الكتاب المقدس : " ثم كلم الرب موسى قائلاً " :
- ارسل رجالاً ليتجسسوا ارض كنعان , التي انا معطيها لبنى إسرائيل , رجلاً واحداً لكل سبط من آبائه ترسلون .
" فأرسلهم موسى ليتجسسوا ارض كنعان , وقال لهم :
- اصعدوا من هنا إلى الجنوب , واصعدوا إلى الجبل , وانظروا الارض ما هي . والشعب الساكن فيها , أقوي هو أم ضعيف , قليل أم كثير . وكيف هي الارض التي هو ساكن فيها , أجيده أم رديئه . وما هي المدن التي هو ساكن فيها , أمخيمات أم حصون . وكيف هي الارض , أسمينة أم هزيلة , أفيها شجر أم لا . وتشددوا فخذوا من ثمر الارض " .
ولا ينتظر من أي رئيس ضليع في الجاسوسية الحديثة , أن يصدر إلى جواسيسه من التعليمات ما يفوق التعليمات التي اصدرها موسى في سنة 1400 ق . م وإن كان الامر يتطلب بطبيعة الحال شيئاً من التعديل و التبديل , يتناسب مع تغير الظروف وتطور الحضارات .. لأن الواقع ان تعليمات موسى غطت الأمور الجوهرية في مهمة أي جــاســوس ..
بل ان تنظيمه للعمليه كان يدل على ذكاء .. فلا شك في ان المعلومات التي تأتي بها عدة مصادر , تفوق في القيمة والدقة ما يأتي به مصدر واحد .
وعاد جواسيس موسى ليقولوا :
- إن كنعان ارض يتدفق منها اللبن و الشهد , وإن كان سكانها من العمالقة الجبابرة الضخام . وبعد 40 عاماً قضاها الإسرائيليون في تردد و توجس , تغلبت الرغبة في اللبن و الشهد على الخوف من الجبابرة , بتأثير جاسوسين معينين هما ( كالب و يوشع ) وكان أن تقدم الإسرائيليون ودخلوا فلسطين .
كانت هذه هي ثاني قصة جاسوسيه في التاريخ .. ومن بعدها توالت العمليات..
أصول الحرب وصن تزو
يعتبر ( صن تزو ) رائد الجاسوسية الصينية , ولا يعني ذلك أن الصين لم تعرف الجاسوسية قبل عام ( 510 ق.م ) فعمر الجاسوسية في الصين حوالي 2500 سنة , لكن الفضل يرجع ( صن تزو ) في تكوين أول شبكة مخابرات كاملة في الصين . ألف كتابا عنوانه : ( أصول الحرب ) , وهو أقدم كتاب عرف عن فن الحرب عموماً , وما يزال مطلوباً للقراءة في أكاديميات عسكرية كثيرة , استفاد منه ( ماوتسى تونج ) في زحفه الطويل , وطبقه اليابانيون قبل مهاجمة ( بيرل هاربور ) وهو كتاب شامل مفيد حتى أن قيادة الطيران الملكي البريطاني وزعته بعد تبسيطه على ضباطها في ( سيلان ) أثناء الحرب العالمية الثانية .
كرس الكتاب جهداً كبيراً لإيضاح أهمية الجواسيس , وطالب بتقسيمهم إلى خمسة أقسام :
* جواسيس محليون : مواطنون محليون يتقاضون مكافآت على المعلومات .
* جاسوس داخلي : خائن في صفوف العدو .
* جاسوس محول : عميل أمكن إقناعه بتغيير .
* جاسوس هالك : عميل اعتاد تزويد العدو بمعلومات زائفة , من المحتمل قتله فيما بعد .
* جاسوس باق : مدرب , يعتمد عليه في العودة من مهمته بأمان .
ولد ( صن تزو ) في ولاية على مصب النهر ( الأصفر ) لكنه أمضي معظم حياته في خدمة ( هو – لو ) ملك ولاية ( وو ) المجاورة .
قاد ( صن تزو ) جيش ( هو – لو ) واحتل مدينة ( ينج ) عاصمة ولاية ( تشو ) غربا , وزحف نحو الشمال مكتسحاً جيوش مقاطعتي ( تشي ) و ( تشين ) .
يعتقد ( صن تزو ) بأن شن حرب بطريقة اقتصادية , مع الدفاع عن البلاد ضد الآخرين , يتطلب ضرورة استخدام نظام تجسس دائم , يرصد أنشطة الأعداء والجيران على السواء , وأكد أهمية التقسيم المذكور , وضرورة اعتبار الجاسوسية عملاً شريفاً , وملاحظة استمرار تقريب العملاء من زعمائهم السياسيين والقادة العسكريين .
أوصى ( صن تزو ) في كتابه بحسن معاملة العملاء المحولين , ومنحهم المسكن المريح , والعطاء الجزيل بين الحين والآخر , لأن هذا أدعى إلى تثبيت ولائهم , بل وإغرائهم بمحاولة استمالة زملائهم ورؤسائهم السابقين , خاصة الذين يستجيبون منهم للرشوة بسهولة .
هانيبال القرطاجي
كان ( هانيبال ) قائداً عبقرياً ولوعاً بمفاجأة أعدائه وإشاعة الفزع في صفوفهم , معتمداً في حروبه على التجسس .
قاد حملة عبرت مضيق جبل طارق وانتصر على الأسبان عام ( 220 ق.م ) , واتجه شمالا إلى جنوب فرنسا , وتسلق جبال الألب من الشمال إلى الجنوب رغم قسوة البرد القارس الذي فتك بكثير من الجنود والفيلة التي كان يستخدمها في حروبه , وهبط إلى سهول إيطاليا , محطماً كل جيوش الرومان التي تصدت له , ويقدر ضحايا هذه الحرب من أعدائه بثمانين ألف جندي من المشاة والفرسان .
أثناء غزو ( هانيبال ) لجزيرة ( صقلية ) , تعذر عليه الاستيلاء على إحدى المدن رغم الحصار الطويل , أراد أن يعرف سر قوة المدينة ومنعتها . فأرسل أحد رجاله فدخل المدينة وادعى أنه جندي مرتزق , وعرض خدماته على حاكم صقلية وأقام في المدينة يتجول فيها , ويدرس تحصيناتها وخطط الدفاع عنها , ويرسل الإشارات إلى ( هانيبال ) عن طريق الدخان المتصاعد من نار يوقدها لطهو طعامه فوق تل المدينة , دون أن يفطن إليه أحد .
وفي تقدمه نحو روما , كان يمهد طريق النصر لجيشه , بجيش آخر من الجواسيس , يجمعون له المعلومات من وادي نهر ( البو ) وسهول الألب السفلى عن القوات , ومعنويات الناس والجيش , وخصوبة الأرض , وأنواع المحاصيل , ثم يضع خططه الحربية على ضوء مايتوافر له من معلومات.
سيبيو أفريكانوس (قاهر الفيلة)
اكتسب ( سيبيو ) شهرته من كونه القائد الوحيد الذي انتصر على ( هانيبال ) وفي عقر داره . ولذلك كرموه بلقب ( أفريكانوس ) , وهو مدين بهذا الانتصار إلى جواسيسه .
كانت مشكلته في مواجهة جيش ( هانيبال ) تنحصر في الفيلة التي يستخدمها كسلاح مدرع كاسح . ولكي يتغلب ( سيبيو ) على مشكلة الفيلة أرسل جواسيسه إلى معسكر ( هانيبال ) حيث اختلطوا بسياس الفيلة , وعلموا منهم أن نقطة ضعف الفيل تكمن في شدة انزعاجه وفزعه إذا سمع أصواتاً مدوية .
فلما التقى الجيشان , أحدث جيش ( سيبيو ) ضجة هائلة بالطبول , فساد الذعر والارتباك بين الفيلة , وفقد جنود ( هانيبال ) السيطرة عليها , وانتصر( سيبيو ) عام 203 ق.م .
وفي حملته ضد ( سايفاكس ) ملك ( نوميديا ) حليف ( هانيبال ) , أرسل أخاه ( لاليوس ) مبعوثاً ظاهره التفاوض على الهدنة , وباطنه التعرف على إمكانيات العدو , وأرسل معه ضباطاً متخفين في ثياب عبيد حتى لايشك فيهم ( سايفاكس ) لكنه تفنن في إبعاد ( لاليوس ) ورفاقه عن تحصينات معسكره , فأوعز ( لاليوس ) إلى رجاله بوخز الخيل التي معهم كما لو كانت حشرة لدغتهم .
ولما صهلت الخيل خائفة راح رفاق ( لاليوس ) يطاردونها بطريقة طافوا معها في أرجاء المعسكر , وتعرفوا على نقاط الضعف والقوة , وفشلت مفاوضات الهدنة فهاجم ( سيبيو ) المدينة وأشعل في تحصيناتها النيران , وأرغم ( سايفاكس ) على الصلح.
يهوذا الإسخريوطي
استتر عيسى – عليه السلام – وحواريوه في البستان ليمضوا فيه الليل - وفجأة شق السكون صوت أقدام وقعقة أسلحة , وظهرت مجموعة من الرجال شاهرين سيوفهم .. ووقفوا على بعد خطوات .. وتقدم ( يهوذا الاسخريوطي ) من السيد المسيح , عانقه , وقبله قبلة الرياء المسمومة والتي لم تكن سوى الإشارة المتفق عليها بين ( يهوذا ) والجند , للإرشاد إلى شخص المسيح ..
ترى ماالذي دفع ( يهوذا ) إلى ارتكاب أبشع خيانة عرفها التاريخ ؟؟ ...
كرس ( عيسى ) – عليه السلام – كل جهده لدعوة الناس إلى الفضيلة , والسعي إلى رد اليهود عن ضلالتهم , وإلى اتباع شريعة ( موسى ) السمحة , التي حرفوها , ونهاهم عن تركيز الاهتمام في جمع المال , وكانوا قد حضوا الفقراء والمحتاجين على تقديم مايملكون من نذر يسير إلى صندوق الهيكل , ليتدفق الذهب إلى خزائنهم .
وكان من اليهود طائفة أنكرت القيامة , واستبعدوا الحساب , وكذبوا الثواب والعقاب , ومنهم طائفة أخرى انغمست في الملذات والشهوات .
لم يترك ( عيسى ) – عليه السلام – سبيلا لهدايتهم إلا سلكه , لينتشلهم من وهدة الضلال .
وشعر كهنة اليهود بخطر انفضاح أسرارهم وزوال دولتهم , فثارت ثائرتهم , وقلبوا علية ولاة الروم , وصوروه لرجال السياسة مؤلبا للجموع , مثيراً للفتن , منافساً للحكام .
وتحالف الكهنة والساسة ضده .. وشوا بالمسيح عند ( بلاطس النبطي ) الحاكم الروماني . رموه بالسحر , واستطاع ( كيافاس ) كبير الكهنة اليهود إقناع الحاكم بأن انتشار دعوة ( عيسى ) سوف يؤدي إلى زوال حكمه وتقويض سلطانه.
ونعتوه بأنه كافر بدينهم , وأجمع الكل على التخلص منه .
بثوا من حوله العيون لرصد تحركاته والإيقاع به ثم قتله . وبذلوا الوعود بالأموال والأماني عن الناس , حتى لايثير قتله ثورة . ومما يؤسف له أن يستجيب لغوايتهم ( يهوذا الإسخريوطي ) أحد حوارييه الاثنى عشر ... دلهم عليه وتقدم الجند نحوه ليقبضوا عليه لكن قدرة الله تجلت فأنجاه من كيد الكائدين .
أخفاه سبحانه وتعالى عن أعين الناظرين , وأوقع أبصارهم على رجل شديد الشبه بالمسيح .. انقضوا على الرجل الشبيه بوحشية , فانعقد لسانه من الخوف والفزع ولم يستطع الكلام .. وصلبوه فوق جبل الزيتون .. ولم يكن ذلك الرجل المجهول سوى ( يهوذا ) , الجاسوس الخائن ..
ولكن ما الذي دفع ( يهوذا ) إلى ارتكاب هذه الخيانة التاريخية ؟؟
يعتقد البعض أنه تجسس ووشى بمعلمه من أجل المكافأة المرصودة رغم تفاهتها .. ومقدارها ثلاثون قصعة فضية .. ويرى البعض الآخر أن إرادة الله جعلت من ( يهوذا ) عبرة لعل الناس به يتعظون ويحذرون.
الجاسوسية في العصور الوسطى
اتسمت جيوش العصور الوسطى بقلة العدد , وبدائية السلاح , فكان لابد لمن يريد النصر الؤزر أن ينشط سلاحه الثالث .. سلاح المخابرات , حتى يقصر أمد الحرب , ويقلل الخسائر , وتنجح خططه في مفاجأة العدو , وتضيق الخناق عليه , وقطع خطوط إمداده وتموينه , وشل حركته , وإجباره على الإستسلام . ويتوقف ذلك إلى حد كبير على مقدار ما يتوافر له من معلومات عن ظروف العدو , والعدة , والخطة , والمواقيت , والروح المعنوية للجند , ومواطن القوة والضعف في الجيش , وكشرط أساسي للنصر , لابد أن يكون الاعتماد الاول - بعد مشيئة الله - على توفير أفضل حالات الاستعداد للجيش المحارب , وإلا فلا قيمة لأثمن المعلومات , والأمثلة على ذلك كثيرة .
هزيمــة الملك هــارولد
لم تعرف إنجلترا قبل الملك هارولد في القرن الحادي عشر حاكماً اهتم بالمخابرات مثل اهتمامه . توافرت لديه كل المعلومات عن خطة " وليم الفاتح " في الهجوم على إنجلترا: التوقيت , ومكان نزول الجيش , وعدد الجنود الذين جمعهم وليم الفاتح , وخط سير المعركة . ومع ذلك خسر هارولد الحرب , لابسبب نقص المعلومات ودقتها , ولا لخطأ ارتكبته مخابراته , بل لأن جنوده سئموا القتال , ودب فيهم المرض والكلال , بعد السير مسافات طويلة .
خــوارق النينجــا
فيما عدا الملك هارولد , لم يكن بين حكام أوروبا من أهتم بالمخابرات في العصور الوسطى , على عكس حكام الشرق , إذ لابد وأن تكون تعاليم " صن تزو " الصينية قد انتشرت في شرق الصين وغربه , وعرفها اليابانيون والمغول .
في اليابان ظهر فن " النينجا " , وهو اسم مأخوذ من كلمة يابانية معناها " اللامرئي " أو فن " الاستخفاء " . كان يمارسه في اليابان , في القرن الثاني عشر , فئة من صفوة شباب الساموراي بدنيا واجتماعياً , قيل انهم تدربوا حتى اكتسبوا القدرة على المشي فوق الماء , والحصول على المعلومات أثناء التخفي , والاختفاء والظهور حسب إرادتهم , على الرغم مما في هذا الزعم من مبالغة وتحريف , إلا أنهم خضعوا لتدريب شاق , على أعمال فذه منذ الصغر , كالمشي على الحبال المشدودة , والتعلق في فروع الأشجار بدون حركة لمدة طويلة , والسباحة تحت الماء مسافات طويلة .
حتى صاروا سادة التخفي , والتمويه , والاستطلاع , ومن هنا اكتسبوا اسمهم الخرافي : " النينجا " وبهذه القدرات برعوا في الخدمات التي أدوها , سواء كانوا جواسيس أو مقاتلين , كما أنها أكسبتهم منزلة عالية جدا في المجتمع الياباني .
جانكيـــز خـــان
ويتجلى استخدام المغول للجاسوسية بأوضح معانيه في عهد جانكيز خان .
فما كان لذاك " الإمبراطور المقاتل المغوار " - وهذا هو اسمه بلغته - أن يبسط سلطانه على الأرض ما بين منغوليا وأبواب العالم العربي , بدون خطط محكمة .. وكانت الخطط المحكمة تحتاج بالضرورة إلى معلومات دقيقة , يستقيها جواسيس أكفاء , ويجمعها عملاء أذكياء من جنسيات مختلفة , كمقدمة وأساس لغزواته .
كما كان يكلف التجار المتجولين , ينتشرون في البلاد التي يوشك أن يغزوها , يسجلون المعلومات اللازمة , ويدونون مشاهداتهم وما يسمعون , ويرسلونها إليه . وكثيرا ما لجأ جانكيز خان إلى إيفاد بعض أمهر قواده في مهام جاسوسية صعبة , ومن هؤلاء : قائد اسمه " سبتاي " وآخر اسمه " نويون"
سبتاي يخدع التتار : كان " سبتاي " من أبرز قادة جيش " جانكيز خان " .
فلما عزم الأخير على شن الحرب على التتار , افتعل خلافا مع " سبتاي " , وكلفه باللجوء إلى قائد التتار , وزعم أنه تخلى عن جانكيز خان وانشق عليه .
وأنه يرغب في الانضمام إليه . وإثباتا لحسن نيته قدم له معلومات مزيفة خلاصتها أن جيش المغول بعيد عنهم , وصار يزود جانكيز خان بالمعلومات سرا . وفوجئ التتار بجيش المغول يحدق بهم , فأدركوا أن " سبتاي " لم يكن سوى جاسوس خدعهم . لكن بعد فوات الأوان .
نويون في الصين : أما " نويون " , فقد ارسله " جانكيز خان " على رأس قوة مغولية من الفرسان , لمساعدة إمبراطور الصين في القضاء على تمرد حاكم الإقليم الجنوبي . وكان جانكيز خان يضمر شرا للإمبراطور الصيني , فأوصى " نويون " بالحصول على كل المعلومات اللازمة لشن هجوم على الصين , ونفذ " نويون " الوصية , واستفاد " جانكيز خان " من المعلومات في وضع خطته
المخابرات في صدر الإسلام
ازدادت حاجة المسلمين إلى الاستخبار منذ خرج النبي ( محمد صلي الله عليه وسلم ) من مكة مهاجراً إلى المدينة يرافقه صاحبه ( أبو بكر الصديق ) وبعدها حدثت عدة عمليات .. منها :
أخبار أيام الهجرة الأولى : في الطريق إلى المدينة كمنا في غار حراء ثلاثة أيام . وكان ( عبد الله بن أبي بكر ) يحمل لهما أخبار أحوال المسلمين والكفار في مكة أولاً بأول .
سرية ( عبد الله بن جحش ) : في السنة الثانية للهجرة , كلف النبي ( صلي الله عليه وسلم ) ( عبد الله بن جحش ) , برصد تحركات قريش , ومعرفة أخبارهم إذا يروى أن رسول الله دفع إلى ( ابن جحش ) كتاباً أمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين , وينفذ ما فيه .
ولما فتح الكتاب في حينه , قرأ نصه : " إذا نظرت في كتابي هذا , فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف , فترصد بها قريشا , وتعلم لنا من أخبارهم " .
أعلن ( عبد الله بن جحش ) محتوى الكتاب على رفاقه , وساروا نحو غايتهم السامية في مهمتهم الاستطلاعية لقوات المشركين , والتقوا بثلاثة تخلفوا عن قافلة لقريش حتى يحصلوا على معلومات عن قوات المسلمين , فاشتبك معهم ( عبد الله بن جحش ) ورجاله , وقتل أحدهم , واقتاد الآخرين إلى النبي ( صلي الله عليه وسلم ) يستجوبهم .
عيون علي أبي سفيان : في غزوة بدر الكبرى , خرج ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة , وسار مع أصحابه حتى اقتربوا من ( الصفراء ) , وبعث من يأتيه بأخبار ( أبي سفيان بن حرب ) , وأخبرته العيون أن قريشاً سارت إلي ( أبي سفيان ) ليمنعوا إبله وتجارته حتى لا تقع في أيدي المسلمين .
وفي غزوة بدر أيضاً , أرسل النبي اثنين من المجاهدين للحصول على معلومات عن قوات المشركين , فوجد أحدهما غلامين لقريش يستقيان من بئر بدر , فأحضرهما إلى الرسول الكريم , وسألهما عن عدد الجمال التي ينحرونها للجيش , فأجابا بأنهم ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً .. ومن ذلك أدرك ( عليه الصلاة والسلام ) أن عدد مقاتلي المشركين يتراوح بين 900 - 1000 , لأن عادة العرب أن يخصصوا بعيرا لكل مائة رجل .
علي بن أبي طالب في مهمة : عملية التموية التي قام بها ( علي بن أبي طالب ) - كرم الله وجهه - لم تكن عملية المخابرات الأولى ولا هي الأخيرة , إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بعد موقعة أحد , أن يقتفي أثر الكفار ويستطلع نواياهم , فوجد أنهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل , فعرف أنهم عائدون إلى مكة , بعد أن مثلوا بكثير من قتلى المسلمين , جدعت نساؤهم الأنوف , وقطعن الآذان , واتخذن منها قلائد .. وبقرت ( هند ) بنت عتبة بطن ( حمزة ) عم رسول الله .
وأمر رسول الله بتغطية جثمان ( حمزة ) ببرده , ثم صلي عليه وعلى القتلى 72 صلاة , وأمر بدفنهم .
حيلة نعيم بن مسعود : علم النبي أن قريشاً عبأت جيوشها و ( بني غطفان ) , وانشغلت بمحاولة استمالة قبيلتي ( بني قريظة ) و ( بني أشجع ) , للتحالف معها والحنث بعهدهما للنبي , توطئة لمهاجمة المسلمين في المدينة .. بادر النبي فأمر بحفر خندق حول يثرب , كان الأول من نوعه , وكان مفاجأه أذهلت الكفار وعوقتهم عن مهاجمة المدينة .
كما جعلتهم صيداً سهلاً لسهام المسلمين , وتحقق النصر للمسلمين , خصوصاً وأن أمل قريش في استمالة ( غطفان ) و ( بني اشجع ) إلى جانبهم قد خاب بفضل ( نعيم بن مسعود ) .. فماذا فعل ؟؟
( نعيم بن مسعود ) .. من وجهاء بني غطفان .. أسلم سرا ولم يشهر اسلامه بين قومه .. ذهب إلى النبي محمد وأكد له خبر محاولة قريش وبني غطفان حض ( بني قريظة ) و ( بني اشجع ) على خيانة المسلمين والنكوص بعهدهم , وقال ( نعيم ) إنه طوع أمر رسول الله , فكلفه الرسول بإفساد مؤامرتهم بالحيلة إذا استطاع .
ذهب ( نعيم ) إلى ( بني قريظة ) أعزل من أي سلاح .. إلا سلاح المكر والدهاء , فأوقع بينهم وبين قريش وغطفان , زرع في نفوسهم الشك والارتياب , وحذرهم من أنهم سوف يتخلون عنهم حين تدور الدوائر , بعد أن يكونوا قد خسروا حلف المسلمين وحسن جوارهم , وتأكيداً لصدق رأيه نصحهم بأن يطلبوا من قريش وغطفان رهناً من أشرافهم , يظلون بأيديهم حتى يضمنوا صدقهم واستمرار نصرتهم .
تركهم ( نعيم ) بعد أن أقنعهم بحيلته , وذهب إلى قريش وغطفان , وأخبرهم أن بني قريظة يضمرون لهم شراً , وأنهم رافضون للحلف المعروض عليهم , راغبون في استمرار تحالفهم مع المسلمين , وقد أرسلوا إلى النبي يؤكدون وفاءهم بالعهد , واستعدادهم لأخذ رجال من أشراف قريش وغطفان وتقديمهم ليضرب المسلمون أعناقهم .
أوفدت قريش وغطفان ( عكرمة بن أبي جهل ) في رهط منهم إلى ( بني قريظة ) يستنفرهم للقتال , فامتنعوا بحجة أنهم لا يقاتلون يوم السبت , واشترطوا إعطاءهم رهناً من رجالهم يحتفظ بهم ( بنو قريظة ) ضماناً لعدم التخلي عن العهد إذا اشتدت المحنة .. ورفضت قريش وغطفان شرط الرهن .. واقتنعت كل الأطراف بصدق ( نعيم بن مسعود ) , ودب التخاذل في صفوف الأحزاب , ثم كانت مفاجأة الخندق , وتحقق نصر المسلمين .
ومما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في غزواته وغاراته على القوافل المكية على المعلومات التي كان يزوده بها أعوانه في مكة , بينما لم يكن للكفار من يزودهم بأخبار المسلمين والأنصار في المدينة .
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يوصي المسلمين بكتمان أسرارهم , لعلهم يصيبون العدو على غير استعداد , وينتصرون دون سفك دماء أو إزهاق أرواح , كما حدث قبيل فتح مكة , إذ صدر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر كريم " أن يحفظ المسلمون أسرارهم , ويضنوا بمخبآت ضمائرهم , لعلهم يصيبون قريشاً على غير استعداد , ويدخلون مكة من غير كيد أو عناد .. فلا يسفك في البلد الحرام دماً , ولا يزهق روحاً , ولا يثير حرباً , ولا يذكى ضرام عداء "
تقرير بشر الخزاعي : ومن نماذج تقارير رجال مخابرات جيش النبي صلي الله عليه وسلم قول ( بشر الخزاعي ) لرسول الله صلي الله عليه وسلم :
" لقد دلفت إلى قريش أتسقط أسرارها , وأتعرف أخبارها , وما راعني إلا أن خبر مسيرك قد ترامى إليهم , وحديث رؤياك قد هبط عليهم , ولا أدري كيف وقع عليهم الخبر , ولا كيف استنشقوا حديث الرؤيا .. إنهم يا رسول الله خرجوا ومعهم النياق بأولادها , ولبسوا جلود النمور , وعاهدوا أنفسهم ألا تدخل عليهم مكة أبداً .
وهذا ( خالد بن الوليد ) وهو من يعدونه بمهمتهم , وفارس حلبتهم , قد خرج يستقبلك بخيله , ولعله الآن في ( كراع الغميم ) .